25/11/2021 - 14:10

بهاء إيعالي: أترجم تدرّبًا على الكتابة | حوار

بهاء إيعالي: أترجم تدرّبًا على الكتابة | حوار

بهاء إيعالي

 

* تبدأ سلطة المترجم منذ اللحظة الأولى لقراءته العمل المنويّ ترجمته. 

* ثمّة حاجة دائمة إلى ما يُعرف باللغة الوسيطة.

* المترجم جسر تواصل بين ثقافتين، ومُخْتَلِقٌ للصراعات الثقافيّة بينهما، وهو كاتب النصّ الثاني. 

* الصمت ليس فقط أحد أهمّ طقوس الترجمة، بل هو أهمّها.

 

فِعل الكتابة هو فعل القطيعة الأكبر مع ما سبقه، يسنده قلق السجال معه، وعينه على ما هو قادم. كيف تبدو الكتابة اليوم، في أشكالها وتنويعاتها وتنوّعاتها، مع جيل جديد يحاول أن يغرف من قعر الوعاء ويخلق لغة حيّة، تنقطّع، تتواصل، تتحرّر، تبني، تفكّك؟  

بهاء إيعالي، شاعر ومترجم لبنانيّ، من الجيل الجديد الّذي يقع في متاهة هذه الأسئلة، ويتأمّلها من خلال فعل الكتابة الخاصّ به.

ثلاثة إصدارات شعريّة، وأربع ترجمات نثريّة من الأدب الفرنسيّ في زمن قياسيّ لجورج صاند، ورينيه بازان، وإيمانويل بوف، وجان كوكتو. وعلى الطريق مشاريع أخرى. 

معه كان هذا الحوار الّذي تُجريه ريم غنايم، في الشعر والترجمة والكتابة، حول الحضور التاريخيّ، والدور المعرفيّ الّذي يؤدّيه المترجم، والتقاطعات الخطيرة بين الترجمة وكتابة الشعر في مقابل الرواية.

 

ريم: نبدأ من بطاقة تعريفك؛ من أين بدأت رحلتك مع الترجمة والكتابة؟ وأيّهما سبق الآخر؟

بهاء: في هذا الأمر، أستطيع القول إنّ كلًّا من الترجمة والكتابة قد جاءتا عقب ما هو أساسهما لدى كلّ مترجم أو كاتب، ألا إنّها القراءة، فحتمًا ما من كاتب مهما بلغت درجة موهبته وسليقته يكتفي بهما، والقراءة هي أداة صقل البشريّ أيًّا كان، فالقارئ العاديّ تصقل معارفه وعلومه، والأكاديميّ أدواته العلميّة والفكريّة، والكاتب مهاراته وسليقته الإبداعيّة، والمترجم تدرّبه على الشكليّات والتقنيّات لإنتاجه للمادّة أمامه باللغة الّتي ينقل إليها.

بالتالي، أقرّ بأنّ القراءة هي أساس رحلتي في الكتابة والترجمة، صحيح أنّني بدأت بالكتابة في سنّ مبكّرة، لكنّ معظم نتاجي في تلك المرحلة لا يتعدّى اصطلاحه إلّا مصطلح «كتابات الصبا»، أو كما يسمّيها بعض الرومانسيّين «خربشات»؛ بيد أنّ تجربتي الجدّيّة في الكتابة لم تبدأ إلّا منذ خمس سنوات أو ستّ، وهي تجربة لا تزال تتّخذ منحنيات تطوّريّة، وستظلّ كذلك.

أمّا الترجمة فبدايتي معها مغايرة نوعًا ما، فشأني شأن أيّ قارئ أبهره الفارق الأدبيّ والفنّيّ والثقافيّ بين الأعمال الأدبيّة العربيّة والأجنبيّة، في الشعر تحديدًا، قلت في نفسي: لِمَ لا أجرّب في الترجمة؟ وبالفعل، بدأت محاولاتي في ذلك، وما زلت أذكر أوّل نصّ تصدّيت لترجمته، ألا وهو قصائد للشاعر النرويجيّ جان إريك فولد؛ صحيح أنّ هذه التجربة لم تكن ناجحة تمامًا، لكنّها بدايتي مع ما أصبح اليوم مهنة لي، وأيضًا عرفت الكثير من التطوّر ولا أزال.

 

ريم: ثلاثة إصدارات شعريّة، أربعة إصدارات ترجميّة، عَمَلٌ في مجال التحرير والكتابة الصحافيّة الثقافيّة، وأعمال أخرى على الطريق. بين مِحن الترجمة، وقلق الكتابة الإبداعيّة، ما معنى أن يعيش الكاتب في الحيّز البينيّ لهذه المعارف، وأين يتّجه بهويّته المستقبليّة، في فضاء هذه التعدّديّة؟

بهاء: اسمحي لي أن أدخل في تفصيل مستفيض حول ذلك، ولكن لا بدّ لي أوّلًا من أن أستذكر جان كوكتو، فالأخير لم يكن شاعرًا فحسب، بل جرّب في كلّ ما يتعلّق بالأدب والفنّ؛ إذ عُرف شاعرًا في «الجليّ والمعتم»، وروائيًّا في «الأطفال الرهيبون»، ومسرحيًّا في «الإله الأزرق»؛ هذا ولمّا ندخل بعد في أعماله السينمائيّة كاتبًا ومخرجًا، والتشكيليّة رسّامًا ومهندس ديكور، والنقديّة كأحد أهمّ الأكاديميّين الفرنسيّين في تلك الحقبة. لطالما كان السؤال المطروح هو: كيف يستطيع كوكتو تحقيق توازن بين كلّ ذلك؟ والجواب بسيط: آمن كوكتو بأنّ كلّ ما يقدّمه ويقوم به يحمل صفة «تجربة»، وبتجاربه المختلفة شكّل هويّته كاتبًا.

أمّا بالنسبة إلى تجاربي المختلفة، فكلّ واحدة منها شكّلت هويّتي كاتبًا، وباستثناء الشعر الّذي أعتبره أُولى تجاربي، فكلّ ما عملت به وقدّمته أضاف إليّ شيئًا إبداعيًّا، كتبت في القصّة ونُشرت معظم قصصي، وحاليًّا أجرّب في الرواية؛ أمّا الترجمة فكانت وستظلّ بالنسبة إليّ تدريبات على الكتابة، فقد أكسبتني بعض المهارات الجديدة، وزوّدتني بأدوات إضافيّة تقنيًّا وفنّيًّا؛ في ما علّمني عملي في مجال التحرير، سواءً في موقع «أنطولوجيّ» أو في «دار الرافدين»، كيف أعيد قراءة نصّي بعين مختلفة عن عين الكاتب نفسه، وأضاف إليّ بعض الخبرة بكشف هفوات النصّ المقروء، وبالتالي أعمل على تجنّبها في نصوصي؛ بينما كان عملي في الصحافة الثقافيّة بمنزلة عمل "لأكل العيش"، شأني شأن العديد من الأدباء والشعراء الّذين اشتغلوا بهذا المجال، وأيضًا كان عملًا بدافع الفضول والحشريّة المعرفيّة، فكصحافيّ محاور حاورت أسماء مهمّة، منهم جبور الدويهي وخالد خليفة وروي كويّاس وعيسى مخلوف، وتمثّل التحدّي خلال ذلك في محاولتي الخروج من عباءة الحوارات الصحافيّة النمطيّة، وطرح مسائل جديدة تدفع الطرف الثاني إلى قول كلّ ما لديه، وكصحافيّ كاتب، حاولت أن أكون مغايرًا في طروحاتي وقراءاتي للمسائل الّتي أناقشها، أو الكتب الّتي أقدّم لها عروضًا، وكصحافيّ مترجم، جرّبت استقدام ما يُعتبر غريبًا على العربيّة، وجمعهما بقاء تعارف.

كلّ هذا شكّل هويّتي كاتبًا، والكاتب هنا هو الّذي يقوم بفعل الكتابة بمفهومها المطلق دون التقولب ضمن مسمًّى محدّد. صحيح أنّني أُؤْثِرُ مسمّى الشاعر في غالب الأحيان، لكنّني أدركت منذ البداية ضرورة التجريب في كلّ شيء. قد يجد البعض هذا الأمر هجينًا، لكنّه ليس بجديد، فبالإضافة إلى شعره كتب أبو العلاء المعرّي «رسالة الغفران»، و«رسالة الهناء»، و«الفصول والغايات»، وغيرها، (وأعترف أنّني أحبّ المعرّي ناثرًا أكثر منه شاعرًا)، فيكتور هوغو الشاعر كتب رواية «البؤساء» إحدى أهمّ روايات الأدب الفرنسيّ في التاريخ، وغيرها، وجاك كيرواك كتب رواية «على الطريق»، وغيرهم الكثير ممّا لا يسعني ذكره.

 

ريم: من هذا الوجه الإنسانيّ المتعدّد، أشير إلى ترجمتك عن الفرنسيّة. تترجم عن الفرنسيّة، وهو ما يعني الاختلافات الثقافيّة واللغويّة والتصوّرات الفكريّة أيضًا بين اللّغتين والثقافتين. ما الإشكالات اللغويّة والأسلوبيّة والدلاليّة الّتي تواجهها في التعامل مع الترجمة من الفرنسيّة؟ وما الجديد الّذي ترى نفسك تقدّمه للقارئ العربيّ لم يقدّمه آخرون من قبلك، أو من مُجايليك من المترجمين؟

بهاء: كثيرة هي الفوارق بين اللغتين والثقافتين العربيّة والفرنسيّة، وهو اختلاف حتميّ لا نقاش فيه، بدايةً جرّاء اختلاف الجذر اللغويّ (الساميّ لدى العربيّة واللاتينيّ لدى الفرنسيّة)، وكذلك الإرث الثقافيّ والفكريّ والتاريخيّ والجغرافيّ لكلا اللغتين، وهي تفاصيل طويلة لا داعي إلى الخوض فيها بعيدًا عن الموضوع.

كما هو معروف بأنّ العربيّة الفصيحة هي لسان قريش، فإنّ الفرنسيّة الفصيحة، أو لنقل الفرنسيّة الّتي نعرفها، هي لسان باريس، في ما يمكن إحصاء أكثر من 40 لهجة فرنسيّة تصبّ في خانة اللهجات الفرعيّة الصغرى، وأيضًا ثمّة تطوّر لافت حدث للغة الفرنسيّة منذ القرن التاسع عشر حتّى اليوم، وهو ما غيّر كثيرًا في اللغة ناحية المصطلحات والتعابير والمفردات. من هنا تأتي أبرز معضلات الترجمة الّتي أصطدم بها، ألا وهي مصادفتي لبعض الكلمات المنضوية في خانة إحدى اللهجات، أو إحدى الكلمات أو العبارات الّتي تعود للّغة الفرنسيّة القديمة، وذلك بسبب اشتغالي على أعمال فرنسيّة عائدة لأواخر القرن 19 وأوائل الـ20، ممّا يستوجب عليّ إجراء بحث حول المعنى الدقيق لهذه الكلمة بالفرنسيّة الباريسيّة الحديثة، ومن ثَمّ نقلها إلى العربيّة. أتخيّل نفسي قبل خمسين سنة أترجم الكتاب نفسه، وحدث معي ذلك؛ ما الّذي يمكنني فعله حينذاك؟ ربّما أتوقّف عن ترجمته، أو عليّ أن أدرس اللهجات الـ40، أو عليّ السفر من بلد إلى بلد للعثور على معنًى لها... كلّ هذا اليوم بات سهلًا في ظلّ ثورة المعلوماتيّة.

كما لا بدّ من ذكر مسألة اختلاف الإيقاعات اللغويّة بين العربيّة والفرنسيّة، وكذلك التراكيب في الفقرات. وأمام هذه الاختلافات، لا بدّ من خيارين: إمّا الحفاظ على إيقاع النصّ بصورة مطلقة؛ وهو ما يجعل التركيب العربيّ للنصّ هشًّا، وإمّا إعادة تركيب إيقاعه بصورة ملائمة للغة العربيّة؛ وهنا أسقط في فخّ إفقاد النصّ لروحه الأصليّة، وبالتالي ألصق على نفسي تهمة الخيانة. من هنا، أحاول أن أجتهد بالحصول على تركيبة تضمن الحفاظ على الإيقاع الأصليّ للنصّ، بأكبر قدر ممكن مع بعض اللمسات الفنّيّة الّتي تعطيه بنية متماسكة وواضحة.

لن أقول إنّني سأقدّم جديدًا في الترجمة، لكن لديّ نقطة أعمل عليها بشكل دائم، ألا وهي إعطاء أسماء العلم لفظها الفرنسيّ الدقيق، فكثير من المترجمين العرب سقطوا في فخّ الترجمة النظريّة؛ أي ترجموا الأسماء كما قرؤوها حرفيًّا لا كما سمعوها، فمثلًا ترجموا «Lousi» إلى «لويس» وهي «لْوِي»، وترجموا «Reims» إلى «ريمس» وهي «رَانس»، وترجموا «Paris» إلى «باريس» وهي «بارِي». كلّ هذا أسعى إلى تفاديه بالاعتماد على الترجمة السمعيّة، وبالاستماع إلى اللفظ الدقيق للاسم.

 

ريم: أضيف إلى ما تقوله حول معضلات الترجمة، التناقضات في الشباك النصّيّة والفكريّة الّتي تحدث بنفس قدر التناقضات الّتي تحدث في اللغات، على حدّ تعبير لوفيفر. الآن، من بين أكثر المقولات شيوعًا حول مهمّة الترجمة أنّها فعل جسر وحوار بين الثقافات. بعيدًا عن هذه المقولة، حدّثني عن دور الترجمة عندك كمُترجم شابّ، ومن خلال تجربتك الشخصيّة والمهنيّة مع الترجمة، عن مهمّة المترجم شيطانًا، ومحورًا، وخطّاءًا، وعن الديناميّات المتحوّلة لترجمة الشعر والنثر، اليوم.

بهاء: في سورة الحجرات من القرآن الكريم، ترد الآية "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا"، وما دامت الترجمة أهمّ وسائل التعارف والتواصل بين الشعوب والثقافات كما يقال، فسأتحدّث عن الدور الّذي أدّته في حياتي بشكل شخصيّ، الّذي لا يختلف عن دورها لدى قرّاء الكتب المترجمة، وذلك من خلال الأعمال الّتي ترجمتها لغاية الآن: في «الهاجس» للروائيّ الفرنسيّ إيمانويل بوف (1935)، ولجتُ داخل المجتمع الباريسيّ السفليّ، وتعرّفت على مختلف خصاله وأفكاره وعاداته، وفي «رسائل كوكتو» (2021)، تأمّلت في النقاشات والعلاقات الّتي دارت في أروقة الثقافة الفرنسيّة أواسط القرن العشرين، وفي «بروج الميّتة» (2021) عدتُ إلى أوروبّا الكاثوليكيّة المحافظة، والقيم الخاصّة بمجتمعات المدن الصغرى، وفي «الأرض الّتي تموت» (2021) قادني رينيه بازان نحو حياة الريف البروتانيّ والمشاكل الّتي واجهتها الحياة الريفيّة مع تمدّد الثورة الصناعيّة في أوروبّا.

قد تقولين إنّ بإمكان أيّ قارئ اكتشاف ذلك، لكن هنا تكمن مهمّة المترجم، ألا وهي كيف سينقل ما وجده وعرفه في الكتاب المنويّ ترجمته، وتقديمه للقارئ كما هو، وبالتالي فإنّ دور المترجم هنا هو التلقين، أقول التلقين وليس التعليم عمدًا؛ فالمترجم ليست مهمّته إعادة صياغة المادّة وإيصالها إلى القارئ بأسلوبه الخاصّ، بل عليه إيصالها كما هي، من الورقة إلى الورقة دون أيّ تلاعب، إلّا في بعض الجوانب الفنّيّة الضروريّة الّتي تستدعي تدخّله.

 

ريم: أعتقد أنّ ما تقوله يبقى في المستوى النظريّ المثاليّ لمهمّة المترجم، لكنّ الحقيقة قد تكون عكس ذلك، وما يمكن أن يُثبت ذلك هو الفحص الدقيق للنصّ المترجم، وهو نادرًا ما يحصل في الترجمات العربيّة؛ من خلال إعادة ترجمة النصّ، أو تحريره لغويًّا ومضمونًا عن الأصل (وليس عن لغة وسيطة)، أو من خلال دراسات أكاديميّة دقيقة، والأمثلة كثيرة أذكر منها نقد صلاح نيازي لترجمات شكسبير على يد جبرا، على سبيل المثال لا الحصر. ولا تنسَ أيضًا التعقيد الكامن في الترجمة عن لغة وسيطة، الّتي في الغالب تكون ترجمات جميلة في مظهرها، "مزوّرة ومحوّرة" في باطنها.

بهاء: موضوع اللغة الوسيطة موضوع إشكاليّ، وسأعلّق عليه بسرعة: ثمّة حاجة دائمة إلى ما يُعرف باللغة الوسيطة، والسبب هو وجود العديد من المؤلّفات والأعمال الّتي لمّا تصل بعد إلى المكتبة العربيّة لكنّها متوفّرة بلغات أخرى غير لغتها الأصليّة، وبالتالي من الجيّد ترجمتها عن لغة وسيطة إذا عثر عليها مترجم لا يجيد اللغة الأصليّة للنصّ. قد لا تكون الترجمة ذات مستوًى عالٍ من الدقّة، لكنّها لا تُعتبر "ترجمة سيّئة"، فأقلّ ما تفعله هذه الترجمة هو أنّها تفتح الباب على ترجمة أعمال كاتبٍ ما عن لغته الأصليّة. ألم يترجم سامي الدروبي دوستويفسكي عن اللغة الفرنسيّة؟ ها هو دوستويفسكي اليوم يُتَرجم عن اللغة الروسيّة مباشرة.

كثيرًا ما أستعين بلغتي الفرنسيّة لترجمة قصائد شعريّة لشعراء مجهولين في اللغة العربيّة، وترجمتُ للعديد منهم: البرتغاليّ روي كويّاس، والفنلنديّة سايلا سوسيلْوتو، واليونانيّ تاسوس ليفاديتس، والبلجيكيّ هوغو كلاوس، وغيرهم. وأنا الآن بصدد تحضير مشروع أنطولوجيا شعريّة ستكون مترجمة بكاملها عن اللغة الوسيطة. لن أدّعي أنّ ترجماتي لهم جيّدة، لكنّها على الأقلّ أضاءت على شعرهم، فليأتِ مترجمون عن لغاتهم الأمّ وليصحّحوا ترجماتي، لن يزعجني ذلك على الإطلاق.

 

مؤلّفات وترجمات لبهاء إيعالي

 

ريم: ننتقل إلى موضوع آخر، ليس من السهل أن تكون شاعرًا وتترجم الشعر، وناثرًا وتترجم النثر. في رأيك، وفي عصر انفجار المعلومات، بِمَ تختلف لغة المبدع عن لغة المترجِم؟ وكيف ينجح الجامع بينهما في الحفاظ على الشعرة الفاصلة بينهما، فلا يصير المترجم شاعرًا مثلًا، ولا يصير الشاعر مترجمًا لشعر غيره بلسانه.

بهاء: هنا سأختلف معك بعض الشيء، صحيح أنّه ليس من السهل، لكنّه أيضًا ليس من الصعب، فبحسب ذائقتي الشخصيّة، وبالعودة إلى الأعمال الّتي ترجمت إلى العربيّة، أجد أنّ أفضل الأعمال المترجمة تصدّى لاشتغالها كتّاب، فتجدينني أميل إلى ترجمات بول شاؤول، وآدم فتحي، وبسّام حجّار، وأمارجي، وغائب طعمة فرمان، وأحمد عبد اللطيف، وغيرهم. لماذا؟ ببساطة، لأنّ معظم هذه الفئة، ومع تجاربهم الكتابيّة، يستطيعون تقديم مادّة أكثر قراءة، فهم يعرفون طريق القارئ، ويعرفون كيف يطبّقون فكرة بول ريكور الّتي تقول، بما معناه، إنّ الترجمة هي المحاولة لعدم ترجمة النصّ؛ أي عدم إظهاره كأنّه مترجم.

هذا ويظهر الفارق بين لغة المبدع ولغة المترجم في نقطتين أساسيّتين: النقطة الأولى تتعلّق بنسب اللغة، وذلك لأنّ لغة المبدع هي لغته الخاصّة، يتلاعب بها ويقولبها ويأخذ بها كيفما يشاء دون أن يجد نفسه ملتزمًا بضوابط معيّنة سوى ما يتعلّق بأساسيّاتها، في ما لغة المترجم هي لغة الآخر؛ أي لغة لا تخصّه، وعليه قراءتها كما هي وإقراؤها كما هي، أمّا النقطة الثانية فهي الخصائص اللغويّة للّغتين، وهو ما يرتبط بالنسب بلا شكّ، فلغة المبدع تغلب عليها الأساليب الإبداعيّة والجماليّة، وتكون المسائل التقنيّة هامشًا لسبك النصّ بصورة متماسكة، بينما تأتي المسائل التقنيّة في المقام الأوّل عند لغة المترجم (المترجم حصرًا)، وتكون الأساليب الإبداعيّة والجماليّة فيها كمكياج لتجميل صورة النصّ ليس أكثر.

قد يكون سؤالك عن مدى نجاح الجامع بين الإبداع والترجمة في الحفاظ على الفارق بين اللغتين إشكاليًّا، وبالتالي فلن تأتي إجابتي إلّا من منظوري الشخصيّ؛ لأنّها حتمًا عرضة للنقاش: ما يجعلني أستطيع التفريق هو تمتّعي بحسّ الأمانة الترجميّة على صعيد اللغة، كما هو الحال على صعيد الفكرة، فحين أمسك بين يديّ نصًّا لأجل ترجمته، ألغي دور المحرّر وأستعين بدور القارئ، وبالتالي أشعر بأنّه، وكما قرأت النصّ، ينبغي لغيري أن يقرأه، وكما أراد الكاتب إيصاله ينبغي أن يصل. قد يحدث أن أمزج قليلًا بين لغتي ولغة النصّ، لكن بصورة نسبيّة لطيفة ولغايات جماليّة وتقنيّة في آن، وبالتالي تأتي لغتي بمنزلة "الأوراق" الّتي تغطّي الشجرة، وليس الجذع.

 

ريم: جزء من دراستك الأكاديميّة يدخل في مجال التاريخ، وهو ما يمكن رؤيته في اختياراتك الترجميّة – المنحى التاريخيّ، والولوج إلى العمق الجغرافيّ. ما سرّ الشغف من وراء هذا "التصيّد" للنفَس التاريخيّ في ترجماتك حتّى الآن؟ وكيف يمكنك أن تقدّمه معرفيًّا للقارئ دون التشويش على معنى المتعة؟

بهاء: هو شغف ليس بجديد على الإطلاق، فمنذ سني عمري الأولى وأنا أملك شغفًا خاصًّا تجاه التاريخ، وأذكر أنّني أخذت من مكتبة خالي «موسوعة المعرفة القديمة»، والمتألّفة من 24 مجلّدًا، وكنت أتّجه بشكل لاإراديّ تجاه الموضوعات التاريخيّة المطروحة فيها، ولطالما كان لديّ هوس في تعرّف الأحداث التاريخيّة سياسيًّا، وحفظ التواريخ المتعلّقة بذلك، وهو هوس طوّرته مع تقدّمي في العمر واختياري التاريخ والميثولوجيا كدراسة أكاديميّة، فلم يعُد التاريخ بالنسبة إليّ مجموعة الأحداث السياسيّة الّتي أقرؤها، بل أصبح بحثًا في التاريخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ لبلاد وشعوب وبقاع جغرافيّة محدّدة. وبالتالي لا بدّ من حضور النفَس التاريخيّ في كلّ أعمالي الأدبيّة والترجميّة والصحافيّة.

لكن إذا أردنا إعادة النظر في الأعمال الأدبيّة الّتي أعمل في ترجمتها، فسنجد أنّ ما من كتاب واحد حمل صفة "كتاب أدبيّ تاريخيّ"، بل هي بمنزلة "أعمال أدبيّة قديمة"؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هذه الكتب كانت عبارة عن تجارب أدبيّة عصريّة في تلك الأزمنة؛ أي لم تشتغل على حقبة تاريخيّة معيّنة، بل كانت مناخاتها هي العالم المعاصر لها، وإذا أردت ذات يوم أن أشتغل في رواية تاريخيّة بالمعنى الاصطلاحيّ للكلمة؛ أي الرواية الّتي يعرّفها جورج لوكاتش بأنّها "رواية تاريخيّة حقيقيّة تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم الماضي"، فأفضّل العمل على مؤلّفات الروائيّ الفرنسيّ جوزيف بيدييه. لكن ربّما، وبسبب أنّها باتت أعمالًا قديمة ومناخاتها الأدبيّة والمحيطيّة مختلفة عن عالم اليوم، يمكن حشرها في خانة الأدب التاريخيّ.

جاء اندفاعي لترجمة هكذا أعمال جزءًا من مشروعي في التاريخ، فمنذ بدأت عملي في الترجمة أيقنت بقرارة نفسي أنّ هذه الأعمال بمنزلة "وثائق" تاريخيّة، وبالتالي هي مصدر معلومات كبير لمن يودّ ذات يوم أن يشتغل ببحث حول حقبة تاريخيّة معيّنة وليست مرجعًا علميًّا؛ بل ما يعزّز مصداقيّة هذه الأعمال الأدبيّة في الحيّز التاريخيّ هو أنّها كتبت بعينِ كاتب يعايش ما يناقشه في النصّ، ويتوخّى إمتاع القارئ، وليس بعينِ مؤرّخ غرضه ذكر الأحداث الّتي يعاصرها، وينحو بكتابته نحو توجّهات سياسيّة أو دينية قد تكون حائلًا بين المؤرّخ وحقائق تاريخيّة، يجد نفسه مجبرًا على التغاضي عنها. ومن هنا يأتي تفضيلي عربيًّا لكتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهانيّ على كلّ المدوّنات التاريخيّة وكتب السير المعاصرة لزمنه والآتية بعدها، والسبب في ذلك هو أنّ الأصفهانيّ لم يتوخّ السرد التاريخيّ الدقيق بقدر توخّيه إمتاع من يقرؤه.

إن أردت أن تسأليني عن كيفيّة تقديمي لهذه المعارف العلميّة في ما أترجمه دون إفقاد النصّ لمتعة قراءته، فما فعلته في ترجمتي لرحلة جورج صاند إلى مايوركا هو أنّني وضعت مقدّمة أحطت فيها بالجوانب التاريخيّة الّتي أحاطت بهذه الرحلة، وأعدت تعريف جورج صاند، كذلك لم أتردّد في وضع هوامش واسعة للكتاب بغية عدم ترك القارئ في حيرة من أمره أمام ما يقرؤه. أمّا في الأعمال الروائيّة فسأقول دون حرج إنّ هذا ليس من اختصاصي، بل هو من اختصاص الكاتب، فهو من عليه تركيب بنية نصّه ليمزج بين المعرفة والمتعة، ودوري ينحصر في تقديم هذه الروايات إلى القارئ العربيّ بأفضل صورة ممكنة ليس أكثر.

 

ريم: ما دمنا نتحدّث عن دور المترجم الّذي لا ينحصر في المعنى الأخلاقيّ فقط أو المعرفيّ، هل تتّفق معي في أنّ في كلّ عمليّة ترجمة، ثمّة درجة من "العنف" في الطريق إلى تسيير ثقافة الآخر وتسهيل وصولها؛ ترجمة الثقافات المستعمرة، ترجمة ثقافات العالم الثالث، ترجمة الثقافات البعيدة، لكلّ منها مناهج في العنف "الناعم" وتشكّلاته، من عنف دلاليّ، لغويّ - مفرداتيّ، إلى عنف ثقافيّ يهدف إلى ضمان استمراريّة الثقافة عبر الكتابة - الترجمة. من هنا، يمكن التفكير في مهمّة المترجم بصفتها صناعة خطاب ينتقل فيها السؤال من مستوى الـ"من" إلى مستوى الـ"ما"؟

بهاء: هنا ينبغي أن تكون البداية في العنف القائم داخل اللغة الواحدة، وهو ما يمكن تفسيره بمسألة «اللهجات» الّتي قام جيل دولوز وفليكس غواتاري في كتابهما «كافكا: نحو أدب أقلّويّ»؛ بتقسيمها إلى «لهجات كبرى» و«لهجات صغرى». أمّا اللهجات الكبرى فهي اللهجات الفصحى في اللغات، أو ما يمكن اصطلاحه «اللهجة البيضاء»؛ أي لهجة المدن الكبرى الّتي تتّخذ على أنّها اللهجة الفصيحة للغة ما، كاللهجة القرشيّة المكّيّة في اللغة العربيّة، والرومانيّة في اللغة اللاتينيّة، والموسكوفيّة في اللغة السلافيّة وغيرها؛ أمّا «اللهجات الصغرى» فهي اللهجات الّتي تنشأ من اللغة الأمّ ممتزجة بلغة محلّيّة خاصّة وتخضع للعديد من التغيّرات وفقًا للظروف الجغرافيّة والإثنيّة والتاريخيّة للفئة الّتي تتحدّث بها، والمنطقة الّتي تسود فيها، وهو ما يمكن الحديث عنه تاريخيًّا ضمن تصنيف العائلات اللغويّة، وهذا شرح يطول. أمّا العنف الكائن في اللغة فيتجلّى في السيطرة الّتي تفرضها اللهجات الكبرى على الصغرى، فتندفع الأخيرة لما يُعرف بـ «التخريب اللغويّ»؛ أي عدم اعتماد اللهجة السائدة في اللغة كلسانٍ مقدّس لا يجوز المساس به، بل تعمل على نقل بعض مصطلحاتها الخاصّة إلى قلب اللغة – اللهجة، وهكذا يكون التطوّر والتغيّر النحويّ واللفظيّ للغة ما. لن أذهب بعيدًا، وسأتحدّث عن اللغة العربيّة الفصيحة الّتي عُرِفَتْ بلسان قريش: جرّاء التوسّع العربيّ خلال ما عُرف بالفتوحات الإسلاميّة، كان لا بدّ من الاحتكاك باللغات الأخرى الّتي تعود إلى البلدان المفتوحة، وهو ما تجلّى في التأثيرات المختلفة على جسم اللغة طيلة قرون، وأوصل اللغة إلى ما هي عليه اليوم، ففي الجنوب كانت التأثيرات اليمنيّة والحضرميّة، وفي الشمال التأثيرات السريانيّة والآراميّة، وفي بلاد العجم تأثيرات فارسيّة وتركيّة، وفي الغرب تأثيرات مصريّة وأفريقيّة، وأخيرًا في إسبانيا تأثيرات قوطيّة إيبيريّة.

ما ينطبق على اللغة الواحدة ينطبق على الترجمة، ففي مخيّلة المترجم، في رأيي، تصبح اللغتان لهجتين قائمتين ضمن لغة واحدة، إحداهما لهجة كبرى وهي اللغة الأصليّة للنصّ المراد ترجمته، والأخرى لهجة صغرى وهي اللغة المنقول إليها النصّ. وهنا يتجلّى العنف دلاليًّا ولغويًّا حين يتحوّل المترجم، بشكل لاإراديّ، إلى الأداة العنفيّة الّتي تستخدمها اللغة المنقول إليها ضدّ بنية اللغة المنقول منها، وذلك من خلال ما يسمّى بفعل المقاربة اللغويّة والبنيويّة، فلا شكّ في أنّ ثمّة خصائص لغويّة ونحويّة مختلفة بين اللغتين، والضرورة تحتّم على المترجم نسف خصائص اللغة المنقول منها، أو تحويرها في أفضل الأحوال؛ لجعل خصائص النصّ بعد ترجمته قريبة إلى اللغة المنقول إليها. أمّا ثقافيًّا فهذا العنف في الترجمة لا يندرج فقط ضمن خانة استمراريّة الأدب لدى مختلف الأمم والشعوب، بقدر ما يصبح مواجهة بينهما، خاصّة حين تكون إحدى اللغتين لغة المستعمِر والأخرى لغة المستعمَر، فإضافة إلى التفاعل الّذي ينتج بين الطرفين، ثمّة مواجهة يخوضها المترجم بتقديمه للنصوص المترجمة بين الطرفين، فحين يترجم عن لغة المستعمِر فهو يفتح الباب على الجانب الثقافيّ والحضاريّ له ويقدّمه للمستعمَر، والعكس صحيح، وبالتالي فهو يؤسّس لصراع ثقافيّ حضاريّ بين الطرفين، وهو صراع "ناعم" يتجلّى "كعرض عضلات" أكثر من تجلّيه "كاشتباك مباشر". لنأخذ على سبيل المثال، لجهة ثقافة المستعمَر، حركة الترجمة في العصر الذهبيّ للدولة العبّاسيّة، حين اعتبر السريان أنفسهم في مواجهة مع العرب القادمين من شبه الجزيرة؛ فأرادوا نقل معارفهم إلى العربيّة كإثبات لأنفسهم أمام الآخرين – أي العرب – أمّا بالنسبة إلى ثقافة المستعمِر فمثال على ذلك هو حركة الترجمة لبعض المؤلّفات الفرنسيّة، الّتي حصلت في مصر إبّان حملة نابليون بونابرت وبعدها؛ وكمثال مزدوج أُحبّ أن أشير إلى تجربة الشاعر والروائيّ الكرديّ جان دوست في الترجمة، وذلك في ترجمته للأعمال العربيّة (ثقافة المستعمِر) إلى الكرديّة، وأيضًا ترجمته للأعمال الكرديّة (ثقافة المستعمَر) إلى العربيّة.

من هنا، ثمّة إعادة إنتاج للسؤال حول المترجم، فلم يعُد "من هو المترجم؟"، أي عمله في عمليّة النقل والتناقل، بل بات "ما هو المترجم؟"، أي دوره في عمليّة التثقيف والتثاقف؛ وهذا التغيير الحاصل في السؤال أبرز دور المترجم بشكل أكثر أكاديميّة في العصر الحاليّ، فلم يعُد ذلك الّذي يضع نصًّا بين يديه وينقله من لغة إلى لغة، ويتوقّف عند هذا الحدّ، بل بات له دور كبير وفعّال في استمراريّة الحركة الثقافيّة وتطوّراتها، فهو أوّلًا جسر تواصل بين ثقافتين، وثانيًا مُخْتَلِقٌ للصراعات الثقافيّة بينهما. هذا على الصعيد الجماعيّ، أمّا على الصعيد الفرديّ فهو «الكاتب الثاني» للنصّ، وهو ما يردّني إلى قول مارغريت يورسنار بأنّ الترجمة هي كتابة، فالمترجم حسب يورسنار، ولمجرّد أنّه أعاد إنتاج النصّ في لغة مختلفة، أصبح بمنزلة كاتب آخر للنصّ.

 

مؤلّفات وترجمات بهاء إيعالي

 

ريم: جورج صاند، وجان كوكتو، وإيمانويل بوف، ورينيه بازان، اختياراتك في الترجمة، أمَصدرها مبادرة فرديّة؛ تفكير منظّم مسبَق، أم أنّها اختيارات تقوم على اعتبارات ضمنيّة أخرى؟

بهاء: منذ بدايتي في الترجمة انتهجت مسارًا إستراتيجيًّا محدّدًا قام على ركيزتين: أوّلهما ترجمة الأعمال الفرنسيّة الّتي صدرت خلال القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين، وثانيهما ترجمة الأعمال المهملة والمجهولة على المكتبة العربيّة. أمّا سبب ذلك فيعود إلى انتباهي إلى أنّ المكتبة العربيّة فقيرة بهذه الترجمات، وأسباب ذلك سأناقشها في مقال منفرد أعمل عليه حاليًّا، لكن يمكنني اختصار ذلك بأنّ المكتبة العربيّة استقبلت من الأعمال الفرنسيّة، خلال تلك الفترة، ما كان معروفًا ومنتشرًا بقوّة، فتُرجمت أعمال فيكتور هوغو وألكسندر دوماس وألبير كامو وأونوريه دو بالزاك على سبيل المثال، ولم تُترجَم أعمال رينيه بازان وروجيه مارتان دوغار وجورج برنانوس وأوجين سو، ومن ناحية أخرى فهناك أدباء فرنسيّون عرفتهم اللغة العربيّة بترجمات مختلفة، لكن لم يصلها معظم أعمالهم، أو على الأقلّ الجيّدة منها، وبعض الأمثلة على ذلك رواية «تاماريس» لجورج صاند، ومقالات مارسيل بروست، ورسائل سيمون دو بوفوار إلى جان بول سارتر، والكثير غيرها، وهو كلام لا شكّ في أنّه ليس منحصرًا باللغة والأدب الفرنسيّين وحدهما، بل بكلّ اللغات والآداب في العالم.

 

ريم: للكتابة طقوس، ولا بدّ من أن تكون للترجمة طقوس أيضًا. لعلّ أحد أهمّها طقس الصمت. في مساحات الصمت فعليًّا يولَد النصّ في لغة أخرى. الصمت بصفته اللغة - الحيّز الّذي يربط بين عالمَين، ماذا يفعل بك أثناء فعل الترجمة؟ وماذا يفعل بالترجمة بمصطلحات الغربة والألفة عن الأصل والهدف؟

بهاء: الصمت ليس فقط أحد أهمّ طقوس الترجمة، بل هو أهمّها؛ فالمترجم ليس سوى شخص فُرض عليه عدم التكلّم بلسانه، وإن تكلّم فهو يتكلّم عن غيره. لكن لا يمكن إنكار أنّ هذا الصمت قد اختاره المترجم برضاه التامّ، فرغم شغله الواضح على النصّ بين يديه في مسألة تشكيل لغته، ولأنّه لا يحتفظ بها لنفسه بل يقدّمها للكاتب، آنذاك يجد في الصمت ضالّته بأن يصل إلى صفاء ذهنيّ وحسّيّ يحقّق من خلاله توازنًا منطقيًّا بين الترجمة والتأليف، أو يخفّف فيه من شعوره بأنّه، ومهما فعل لأجل أن يبثّ في الكتاب حياة جديدة بلغة أخرى، بأنّه مغيَّب تمامًا، والحضور كلّ الحضور للكاتب، فحين يقرأ أحد كتابًا سيقول إنّ كاتبه مميّز، ولن يقول إنّ من ترجمه مميّز أيضًا، وهذا ما يحدث غالبًا.

قد يكون الفرق بيني وبين المترجم الصرف هو أنّني لم أختر هذا الصمت إلّا مُكرهًا، ويعود ذلك إلى أنّي كاتب ومترجم في آن، فحين أشكّل لغة جديدة للنصّ بين يديّ أشعر بنوع من الحسرة، أقول في نفسي: لِمَ لا تكون هذه اللغة لغتي؟ أي تُنسَب إليّ في النهاية ولا تُنسَب إلى مؤلّف النصّ. هي حسرة يشوبها استسلام لواقعي كمترجم يبحث عن أفضل (فورمة) لأجل تصدير النصّ، تبقيني على ألفة طويلة مع النصّ لكنّها ستنتهي حتمًا متى أصبح بيد القارئ.

لكن ثمّة بارقة من السعادة أنتشيها بكوني مترجمًا، ألا وهي التطوّر الّذي يطرأ على لغتي جرّاء هذا العمل والاشتغال على اللغة، فمارغريت يورسنار، وكما قلت في سؤال سابق، تقول إنّ الترجمة كتابة، وأنا أقول هي اشتغال على الكتابة، ستسألين ما الفرق بينهما، فأجيبك أنّ الاشتغال على الكتابة يأتي بمنزلة التمرين الّذي يمارسه الكاتب للحفاظ على تماس بينه وبين الكتابة، وهذا التمرين قد يتّخذ أشكالًا عدّة تُعتبر الترجمة واحدًا منها، في ما تُعتبر الكتابة ذلك النصّ الخالص والجاهز؛ أي ما هو ملك لكاتبه ويجيز الأخير نشره. وقد يتجلّى هذا التطوّر في لغتي، بما أبقتني الترجمة على تماس معه من أدوات الكتابة والإبداع المختلفة، وكذلك ما أعطتني وأوحت إليّ من أفكار كتابيّة، ولا ضير من الاعتراف بأنّني، وأثناء اشتغالي على ترجمة كتاب «شتاء في مايوركا» لجورج صاند، أوحت إليّ بفكرة سرديّة قد تكون ذات يوم رواية.

 

ريم: في الضفّة الأخرى من الإعجاب بمهمّة المترجم، ثمّة نسف لهذا الإعجاب. في حوار بين أحد المترجمين وفولتير، يجيب الأوّل عن سؤال الأخير حول طبيعة عمله، فيقول: "إنّي أترجم منذ عشرين عامًا". ويجيبه فولتير: "هذا يعني أنّك توقّفت عن التفكير منذ عشرين عامًا". بين المترجم والترجمة مسافة فاصلة ترفع وتُنزل من شأن الاثنين. في رأيك، ما الّذي يجعل فولتير يُنزل من شأن المترجم؟ وأين تنتهي الضرورة في الترجمة وتبدأ سلطة المترجم؟

بهاء: لو قُدِّر لفولتير أن يعاصر زمننا، وقال فيه هذا الكلام، لكنت أحد أشرس المناهضين لحكمه المسبق على المترجم، لكنّني، وفي ذات الوقت، لا أستطيع لومه، فثمّة فوارق شاسعة بين عمليّة الترجمة في عصره ونظيرتها في العصر الحاليّ، أو ربّما هكذا يتّضح من كلامه، ففي كتابه «ترجمان القرون الوسطى» يرى روجر إليس أنّ المترجمين الأوروبّيّين، ابتداء من القرن الخامس عشر، لم يكونوا معنيّين بالنصّ الّذي يترجمونه، بل بالتاريخ الّذي يتمحور حوله النصّ، وكذلك صلة النصّ بالقرّاء المعنيّين بذلك، وهو السبب في أنّ ترجمات تلك العصور لم تحمل ملامح أدبيّة فنّيّة ممتعة بقدر ما كانت مجرّد نصوص تاريخيّة، لا يوليها الاهتمام سوى بعض الّذين يحسنون القراءة. كما ينبغي ذِكر أنّ لعامل اللغة المترجم منها دورًا كبيرًا في انحسار دور المترجم؛ فمعظم النصوص الّتي تُرجمت في تلك الفترة تُرجم عن اللغة الإغريقيّة القديمة أو اللاتينيّة، وهما لغتان لا تحملان الكثير من المواربات اللفظيّة والسمعيّة، وذلك لكونها لغة الأدبيّات الكلاسيكيّة، الّتي تضع المترجم في موقف المفكّر لأجل حسن تقديمه للنصّ. من هنا، يمكن تحديد دور المترجم في تلك العصور على أنّه مجرّد «ناقل»؛ أي لا سلطة له على أيّ عمل يقوم به، وكلّ اشتغاله يقوم على مسألة «الكلمة مقابل الكلمة» وفكرة الضرورة للترجمة، وبالتالي جاء حكم فولتير على المترجم كما ذكرتِ في سؤالك.

أمّا اليوم فالوضع مختلف تمامًا، فقد عرفت حركة الترجمة تطوّرًا كبيرًا، خاصّة أنّ العالم، منذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأ يعرف تفاعلًا وتلاقيًا كبيرًا بين مختلف شعوبه وأطيافه، وبالتالي لم تعُد الترجمات محصورة ضمن فئة من النصوص حدّدتها الضرورة، بل بات لها مسارات إستراتيجيّة أدبيّة وفكريّة وعلميّة. من هنا، لا بدّ من حدوث نقلات لدى المترجم على صعيد علاقته بالنصّ وكيفيّة تقديمه بلغة مختلفة. كما بات هناك، ولو بصورة نسبيّة، نوع من التخصّص النوعيّ في الترجمة، فهناك ترجمة خاصّة للأعمال الفكريّة، وأخرى للأعمال الفلسفيّة، وثالثة للأعمال الأدبيّة، ورابعة للأعمال العلميّة... ولكلّ واحدة أدواتها وتقنيّاتها ومترجموها المتخصّصون بها، بل هناك أيضًا مترجمون لفئة خاصّة من الأعمال ضمن الخانة الواحدة. وهكذا لم تعُد الترجمة مجرّد ضرورة لغاية ما، بل باتت تتوخّى المتعة في القراءة وحسن تقديم المعارف، وإنشاء نوع من التفاعل الثقافيّ بين مختلف أمم الأرض.

أعتقد أنّه من المناسب الحديث عن الضرورة في الترجمة وسلطة المترجم في ضوء تجربتي الخاصّة: عمليًّا تبدأ سلطة المترجم، وتحديدًا في الأعمال الأدبيّة، منذ اللحظة الأولى لقراءته العمل المنويّ ترجمته، وذلك من خلال تصوّره الباطنيّ للشكل الّذي ينبغي للنصّ أن يقدَّم فيه، وهي سلطة يتقاسمها المترجم مع الكاتب نفسه؛ لأنّه يحاول أن يضع تصوّرًا يجب ألّا يكون مختلفًا عن تصوّر الكاتب نفسه، إذا فكّر يومًا في ترجمة أعماله. وعندما تنطلق عمليّة النقل تمتزج سلطة المترجم بالضرورة وسلطة النصّ؛ فهو ينقل النصّ مثلما ينبغي، لكنّه يحاول من خلال لغة الكاتب الأصليّة أن يولّد لغة مشابهة بلسان مختلف، وهنا لا بدّ من حضور بصمته بشكل من الأشكال؛ لتنتهي الضرورة تمامًا، وتبقى السلطة وحدها في عمليّة المراجعة النهائيّة للنصّ، لكن هنا يتقاسم السلطة طرفان: المترجم والقارئ؛ إذ عليه مراجعته وكأنّه ليس هو من ترجمه. إذن، سلطة المترجم تبقى جزئيّة، ومهما بلغت سطوتها فهي حتمًا ليست كسلطة الكاتب على نصّه.

 

ريم: يرى أمبرتو إيكو أنّ الترجمة هي مشكلة تتضمّنها اللغة الهدف المترجَم إليها، ويكمن التحدّي هنا في مسألة سعي اللغة الهدف إلى حلّ المشكلات الدلاليّة القادمة من اللغة الأصل. في رأيك، ما المطبّات الحقيقيّة الّتي تعاني منها الترجمة اليوم في ضوء ما يقوله إيكو؟ وكيف يمكن إيجاد حلول لها؟

بهاء: ربّما لا أستطيع الحديث عن المطبّات الكائنة في طريق الترجمة، إلّا من خلال المقارنة بين اللغة العربيّة ونظيرتها الفرنسيّة، وهذه المطبّات هي دلاليّة كما ذكرت، لكنّها تنقسم إلى قسمين: معجميّة وسياقيّة.

أمّا معجميًّا فلا تزال المعاجم والقواميس المشتركة بين اللغة العربيّة وأيّة لغة أجنبيّة فقيرة، وهو افتقار ليس للباحثين اليد الطولى به، فبما أنّ كلّ لغة لها ميّزاتها، فلها أيضًا مفرداتها ومصطلحاتها الّتي لا يمكن العثور على معنًى مباشر لها بالعربيّة، وكذلك لأنّ في كلّ لغة مصطلحات مهملة بداعي مرور الزمن وتقادمها؛ أي ما يمكن تشبيهه بما قام به ابن منظور في «لسان العرب»، بتصنيفه الألفاظ ما بين مستخدَم ومهمَل. سأعطي مثالًا واحدًا: كلمة Fromentières الفرنسيّة هي اليوم تسمية لإحدى البلدات الفرنسيّة ضمن إقليم مايِنْ، لكن إذا حذفنا منها صيغة الجمع وأصبحت كالتالي «Fromentière»، وأراد أحد البحث عن معنًى لها، فلن يجد ذلك حتّى في المعاجم الفرنسيّة الحديثة، ولكن يمكنه إيجادها في معجم للغة الفرنسيّة القديمة (كالمعجم الّذي وضعه فريدريك غودفروي عام 1881)، ويأتي تفسيرها على أنّها سوق القمح.

أمّا سياقيًّا فهو دور المفردة أو العبارة في ما يودّ الكاتب قوله، وتحديدًا على مستوى التعابير، فثمّة تعابير فرنسيّة تأتي بمعانٍ مجازيّة، وإن جرت ترجمتها إلى العربيّة تفرغ من معناها، وتصبح بلا جدوى. مثال على ذلك عبارة Prendre quelque chose en écharpe، الّتي لو أراد المترجم نقلها حرفيًّا لأصبحت "أخذ الشيء من وشاحه"، وبالتالي لم يعُد لها معنًى على الإطلاق. ما المقصود بها؟ في القرن السابع عشر كانت النساء تلفّ الوشاح حول الجسد، من الكتف الأيمن حتّى الفخذ الأيسر؛ أي أنّ الوشاح كان زينة إضافيّة يمكن المرأة الاستغناء عنها. من هنا نشأ هذا التعبير المجازيّ؛ بمعنى أنّ المرء لا يعير لأمر ما أهمّيّة كبيرة. وهذا مثال من عديد الأمثلة الّتي صادفتني خلال عملي في الترجمة، ولا تزال.

ربّما باتت الحلول لتفادي هذه المعضلات أسهل مقارنة بالأمس، وذلك جرّاء التطوّر التكنولوجيّ والمعلوماتيّ الطارئ على البشريّة. صحيح أنّ التقنيّة القديمة هي الحلّ الوحيد لأجل ذلك، معجميًّا مقاربة المفردة وترجمتها عن مفردة أخرى تحمل نفس المعنى، وسياقيًّا البحث في أصل الجملة والمعنى المراد منها، إلّا أنّ توفّر المعاجم والقواميس اليوم على الإنترنت قد سرّع وتيرة هذه العمليّة، وجعل من الأشياء سهلة، سهلة للغاية.

 

ريم: أنتقل بك الآن من اسم الفاعل إلى اسم المفعول، من المُترجِم إلى المترجَم. أنت تسعى إلى أن تترجِم بذات القدر الّذي تسعى فيه إلى أن تترجَم. الانتشار، توسيع فضاء الثقافة، النرجسيّة، واعتبارات أخرى ربّما.

بهاء: أثناء عملي على ترجمة نصّ يحضر أمامي كاتبه، بل أتخيّله وأتخيّل كم سعادته لو عرف أنّ كتابه يُنقل إلى لغة أخرى. هل حلم بودلير بأنّ قارئًا عربيًّا في بغداد يقرأ كتابه «أزهار الشرّ» في شارع المتنبّي؟ هل حلم جيمس جويس بأنّ روايته «يوليسيس» دخلت ضمن دراسة أكاديميّة لطالب ماجستير في إحدى جامعات مصر؟ هل حلم يوهان غوته أنّ مسرحيّته «فاوست» تؤدّى على خشبة مسرح في بيروت؟ أعتقد أنّهم حلموا ذات يوم بذلك، وأقول لنفسي: كيف سيكون شعور كلّ واحد منهم حين يرى نصّه في اللغة العربيّة؟

هو الشعور نفسه الّذي يراودني، وسيراودني حين أقرأ نصًّا لي بغير العربيّة، ألا وهو وصول صوتي إلى شعوب ولغات لا أعرفها، وأن يقرأني أشخاص لا أعرفهم. مؤخّرًا تُرجمت قصائدي إلى الإنكليزيّة والبرتغاليّة، وهي الآن في طريقها لتترجَم إلى لغات منها الإيطاليّة والإسبانيّة والصينيّة والتركيّة. طبعًا يأتي كلامي هذا نوعًا من ضرورة الانتشار ونقل الأصوات إلى الثقافات المختلفة، ولا يعني أنّ ترجمة النصوص هي شهادة على جودتها التامّة، فكثير ممّا ترجم لا يحمل التصانيف الدقيقة للجودة النصّيّة، ولكن لمجرّد وصول النصّ إلى ثقافة أخرى يعطي كاتبه ذلك الشعور الجميل، الشعور الّذي أحبّ أن أعيشه حين أرى شيئًا مترجمًا لي.

 

ريم: يقول نورمان شابيرو: أرى الترجمة على أنّها محاولة لإنتاج نصّ شفّاف للغاية لا يبدو أنّه مترجم. الترجمة الجيّدة تشبه لوحًا زجاجيًّا. أنت فقط تلاحظ وجوده عندما يكون هناك القليل من العيوب أو الخدوش والفقاعات. في المستوى المثاليّ، لا ينبغي أن يكون هناك أيٌّ منها. لا ينبغي أبدًا بالاتّصال الانتباه لنفسه. أو هو ما يسمّيه لورنس فينوتي «لامرئيّة» المترجم، الّتي هي شرط إنتج ترجمة تغيب فيها. هل يمكن أن نتحدّث عن «غياب» المترجم أو موته« المؤقّت شرطًا لترجمة جيّدة؟ غياب أثره في سبيل ولادة النصّ؟

بهاء: سأعطيك فرضيّة لطيفة: تخيّلي أنّك في عصر لا تزال فيه الرسائل وسيلة التواصل بين البشر، ولك شقيقة في الأرجنتين، وهذه أرسلت إليك رسالة مفعمة بالاشتياق والحبّ، ووصلتك الرسالة بعد نحو شهرين وقرأتها. ستقولين إنّ رسالة شقيقتك جميلة، وكلماتها عذبة، وما إلى ذلك، لكنّك لن تفكّري لحظة في الجهد الّذي بذله سعاة البريد بين البلدين؛ لتصلك الرسالة بأفضل هيئة لها.

لا يختلف حال المترجم عن حال ساعي البريد؛ فهو يستلم النصّ ويسلّمه، يبذل جهده ليل نهار على إخراجه بأفضل ما لديه. لكن لا يمكننا الحديث عن موته أو غيابه شرطًا لولادة ترجمة جيّدة، بل أجد العكس لأنّه في حال غيابه ستتولّد ترجمة سيّئة. كيف ذلك؟ المترجم حاضر في عمله بكلّ ما ذكرته أعلاه، لكنّه حضور في الظلّ، فالضوء كلّه سيكون مسلّطًا على الكاتب وحده، في ما المترجم غائب، فمثلًا حين يقرأ قارئ رواية مترجمة لكاتب ما، أوّل تعليق سيصدر منه هو ما معناه أنّ الرواية جميلة، والكاتب ممتاز، لكنّه لن يقول إنّ ترجمتها جيّدة والمترجم ماهر. صحيح أنّ الوضع اليوم اختلف قليلًا، وبات للمترجم حضوره في كلّ عمل يشتغل عليه، إلّا أنّه حضور يظلّ هامشيًّا ومحصورًا ضمن النخبة، والنخبة هنا هي الأقلّيّة المهتمّة بالحراك الثقافيّ وذات القراءات النوعيّة والهدفيّة، في ما الوضع ليس كذلك لدى الغالبيّة الّتي تقرأ كتابًا من أجل متعة لبضع ساعات. وبالتالي فإنّ الحديث ليس عن الغياب، بل عن التغييب، وليس عن الموت، بل عن الإماتة.

 

ريم: وأبسط براهين الهامشيّة حضوره البصريّ الهامشيّ على غلاف الكتاب. سأغامر في سؤال قد يكون غريبًا أو وقحًا: ما دام هناك حديث عن المترجم بصفته «الكاتب الثاني»، أن يُكتَب اسمه على غلاف العمل بصفته «شريكًا» في الكتابة، لا بصفته «المترجم» أي «الناقل» للعمل، أم أنّها ما زالت فكرة مبالغًا فيها؟

بهاء: ببساطة، ومن وجهة نظري الشخصيّة، يمكنها أن تكون فكرة منطقيّة في حالتين لا ثالث لهما: أُولاهما أن يكون المترجم قد عمل على ترجمة الكتاب، وكان على تواصل مباشر مع كاتبه، وهو ما ينطبق على الأعمال المعاصرة الّتي تصدر في الآونة الأخيرة، ففي عمل المترجم على الكتاب وتواصله مع الكاتب يستطيع أن يكون على دراية تامّة بمضمونه، ويستطيع إيجاد صيغ ومناخات متقاربة بين اللغتين، بل بإمكانه أن يدلّ الكاتب على بعض السقطات الّتي أوقع نفسه فيها، وبالتالي يتلافاها في النصّ العربيّ، وهكذا يصبح مترجمًا ومحرّرًا في آن. أمّا الحالة الثانية فهي اقتران اسم المترجم باسم مؤلّف معيّن؛ أي يصبح مترجمه، فهنا يكون قد فهم الكاتب وعرف أسلوبه، واستطاع أن يلاقي ما يجمع بينهما. عدا ذلك فإنّ الفكرة، إن لم نقل مبالغ فيها، غير مستساغة تمامًا؛ إذ ستعيب الكاتب وستنتقص من مجهوده، وستعيب المترجم وتجعله أشبه باللصّ.

 

ريم: كتابك الأخير، مجموعة شعريّة بعنوان «بورتريهات لوجهٍ يجوّعه التجهّم»، إحدى عشرة صورة مصوّرة. يبدو لي أنّها تتوزّع على نحو عادل بين ثيمات: الصوت، والزمن، والمكان، والذاكرة، والفراغ، وفرط الأسئلة. هوس برسم الواقع واليوميّ يدعمه المجاز الجريء والتشكيل الحذر. كيف ترى إلى جديدك الشعريّ هذا.

بهاء: عقب صدور عملي الشعريّ «كونشيرتو لشفاه ترفعها الريح»، اعتقدت أنّني سأتوقّف لفترة عن نشر كتاب شعريّ لي، وهو ما حصل بالضبط، ربّما لأنّني احتجت إلى راحة خاصّة من النشر، وانتبهت إلى أنّ ثمّة جوانب لا بدّ لي من تطويرها في نصّي، وبالتالي "أعطيت نفسي مساحةً ووقتًا" حتّى نهاية هذا العام، بحيث صدرت مجموعتي «بورتريهات لوجهٍ يجوّعه التجهّم».

لم تكن قصائد هذه المجموعة نتاج ما بعد «الكونشيرتو»، بل جاءت هذه القصائد على فترات متفرّقة من حياتي الأدبيّة، ولعلّ أبعدها زمنيًّا قصيدة «عقارب فاقعة الفراغ»، الّتي كتبتها قبل نحو ستّ سنوات؛ أي يمكنني القول إنّ القصائد كُتبت بين عامَي 2015 و2020. وهذا التنوّع في الثيمات جاء صورة تقابل تنوّع سمات الوجه في كلّ حالاته: باكيًا، غاضبًا، صامتًا... وهذا الوجه الجائع جرّاء التجهّم هو وجهنا جميعًا، وجه هذا العالم الّذي يعيش أسوأ حقباته التاريخيّة، العالم الّذي لم أنظر إليه من فوق بل تسلّلت إلى ثناياه، هذه الثنايا الّتي تجلّت أمامي صورًا كثيرة، لكن ما أحبّه في قصائد هذه المجموعة هو أنّها لم تدخل حيّز الكتابة اليوميّة، الّتي أمتعض منها علانية، بل اتّجهت نحو الكتابة المتقطّعة الّتي تتخلّلها فترات من الصمت، صمت يعيد تشكيل نصّي بأفضل ما يمكن.

هي آخر مجموعة شعريّة لي حتّى الآن، ومن بعدها سأعود أيضًا لفترة توقّف لا أعلم مدّتها، قد يعتقد البعض أنّني سأتوقّف عن كتابة الشعر، وذلك مجرّد فرضيّة مستبعدة، على الأقلّ خلال السنوات العشرين القادمة، لكن ما هو أكيد أنّ ثمّة صمتًا طويلًا سأعتصم به شعريًّا، ومن بعدها سيكون ثمّة نتاج جديد.

 


 

ريم غنايم

 

 

 

شاعرة، ومترجمة، وباحثة. عملت محرّرة مشاركة في منابر أدبيّة ثقافيّة فلسطينيّة. صَدَرَ لها شعرًا: «ماغ: سيرة المنافي» (2011)، و«نبوءات» (2014)، وترجمةً «مكتب البريد» (2014)، ورواية «مانديلا» (2017).

 

 

التعليقات